بسم الله الرحمن الرحيم
للانقلاب سنوية واحدة فقط !
لعل الذاكرة الفلسطينية لم تكن بحاجة إلى تأريخ جديد, يبيح لها التشتت واعتصار الألم, واحتباس الحسرات في الصدور, على كارثة كان المجموع الوطني, في غنى عنها تماما. كما لم يكن حزيران بحاجة إلى مناسبة مأساوية جديدة, لتؤكد فينا الانكسار مرة أخرى, وقد كنا على مدار العقدين الأخيرين نسعى في مقاربات تفاوضية, لنتخلص من قبضة حزيران الثقيلة, التي تلتف حول أعناقنا منذ عام 1967م, وصولا إلى الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف, وعلى هذا مضت فتح وخلدت أول انتصار في الكرامة, لنبدد الوهن في آذار اللاحق ونهزم هزيمة حزيران. فيما غزة لم تكن أيضا في ترف من حالها, كي يزجها البعض الموتور, للدخول في مقامرات انفصالية, أو تجربة للانعزال والموت والانتحار, على الطريقة الحمساوية التي تجسدت في الانقلاب الدموي الغبي, قبل عام واحد من هذا اليوم.
فقبل عام من هذا اليوم, استكملت المأساة الفلسطينية فصولها, بعد أن أحكم الانقلابيون سيطرتهم, على قطاع غزة بقوة السلاح, ورهبة الدم المسال, وتشريد المشرد, وبعثرة الململم وكسر المجبور, في انقلابٍ عسكريٍ, تعدى كل الخطوط الحمراء, سبق وأن حذرنا منه قبل ذاك التاريخ بوقت طويل, ليرتسم بذلك واقع جديد, لا يؤمن صانعوه بالمشاركة السياسية, أو التعددية الحزبية, تحت يافطة من الشعارات التي ثبت زيفها وبطلانها, منذ الشهور الأولى للانقلاب, وربما هم لا يؤمنون بالسياسة أصلا. فكانت الضربة أشد قسوة على المشروع الوطني, من كل المخاطر التي مررنا بها, على مدار أربعة عقود من النضال ومشاوير المطاولة, والمسير نحو الدولة وتحقيق الحلم الفلسطيني. بينما أثبتت يوميات الانقلاب أن ما قامت به حركة حماس, كان أكثر تدميرا وتمزيقا, للنسيج الاجتماعي الفلسطيني, من كل ممارسات الاحتلال نفسه, طيلة سنوات الاحتلال والاستهداف والاعتقال والتنكيل. سيما وأن ما حدث في قطاع غزة على مدار الأيام والأسابيع والشهور الماضية, قد تعدى كل التسميات والتوصيفات التقليدية, لتعدو ممارسات ميليشيات الانقلاب, وتظهر كعملية اختطافٍ جغرافي, لجزء جيوسياسي فلسطيني, تم رهنه في بورصة إقليمية, أجادت رفع الشعار, وفشلت كل الفشل في إعماله, داخل مراكز حكمها ومناطق نفوذها. فيما أعطى الانقلاب نفسه, إسرائيل ما فاق سقف طموحاتها, كهدية مجانية, برسم الغباء السياسي وبلادة الانتماء, لتستخدمها كستار تلتهي خلفه, لاستكمال مخططاتها الاستيطانية والتوسعية, في الضفة الغربية, وتهويد ما تبقى من عروبة القدس, والاستفراد بقطاع غزة؛ قصفا وقتلا وحصارا, وتعطيل المفاوضات الجارية, واستثمار الانقسام الحاصل, دون النية في التقدم نحو حل جدي عادل, تكون الدولة المستقلة, استحقاقه الكبير.
لقد أثبتت حركة حماس بما لا يدع مجالا للشك, أنها لا تستطيع التعايش إلا مع أجندتها الموضوعة في أكثر من عاصمة, وأكدت أنها حركة أصولية, لا تتمتع بأي رؤية سياسية, أو قدرة على إدارة شؤون الناس, وتسيير أمور الشعب, وأنها حركة تؤمن بثقافة الاستسهال في كل شيء, وأول الأشياء نكث العهود وحنث اليمين, واستباحة دماء الناس وأموالهم وخصوصياتهم, وأنها حركة لم تنضج حتى الآن كي تؤمن بفكرة المواطنة للجميع, أو تعددية الأحزاب والانتماءات, وأن إيمانها بالديمقراطية يقتصر فقط على الخطوة, التي تقودها إلى السلطة في الانتخابات, ثم ينتهي ما بعدها من خطوات. فيما تؤكد حماس كل يوم أنها لا تؤمن بالمشروع الوطني, فكرا؛ وقولا؛ وممارسة, وأنها استبدلت الجدار العربي, الذي كنا ولا زلنا نريده ظهيرا للقضية الفلسطينية, باصطفافات إقليمية يتضح من تعاطيها مع قضايا عربية أخرى, شدة استهتارها بالقضايا العربية, إن لم يكن عداءً للعرب, رغم كل ما تروجه حماس في غير صالح هذا الحقيقية, حتى باتت التُقية الميكافيلية, أداة العمل وعنوانه السري, لحقيقة الممارسة السياسية لحركة حماس, وهو منزلق خطير يتماهى مع وصلت إليه الحركة, في مراتب الوهم السياسي.
لقد أصابت المشروع الوطني الفلسطيني, الذي عمدته وبنته منظمة التحرير بكل فصائلها, أخطر مؤامرة, تهدف إلى الوصول إلى اللادولة واللاعلم واللاستقلال, وإلى إطالة أمد الشتات والتهجير, وإفراغ القضية الوطنية من مضمونها السياسي, لتعود إلى نشأتها الأولى, قبل الفاتح من يناير عام 1965م, كقضية إنسانية بحتة, مفرداتها المخيمات؛ واللاجئون؛ والخيام؛ والغذاء؛ والدواء, قبل أن يُضاف إليها حديثا, المعابر؛ والكهرباء؛ والمياه؛ والوقود, ومفردات أخرى, لا يجمعها إلا قاموس المعاناة والقهر. وهكذا يبدو لنا الانقلاب المؤامرة؛ عودةً إلى ما بعد الوراء بوراء, واختصارا في العناوين الأهداف, وحذفا بالجملة لأربعة عقود, من النضال عبر الكفاح المسلح والمفاوضات, ورميها في سلة المهملات. ما يوضح أكثر؛ مدى وحجم وماهية القناعات, التي آمنت بها حماس, والتي لا تستطيع التسليم بأن التاريخ الفلسطيني, قد بدأ قبل أن يُخلق الانقلابيون, وأن التاريخ يجب أن يبدأ عندهم وحدهم, كما أنه يجب أن ينتهي عند منتهى وصولهم, وأن قدر شعبهم أن يقبلهم مركزاً ونواةً للدائرة, في اتجاه الريح أو عكسها, قل لا فرق, المهم أن يكونوا على رأس الهرم القيادي.
لقد كان الانقلاب يبحث منذ البداية؛ عن عناوين ليبرر وجوده, فاختلق الأكاذيب ولفق الادعاءات, وابتدع المبررات, من عالم مليء بالأوهام والخدع, فكانت البداية تتعلق بأشخاص ومسميات, ثم صارت تيارا في حركة فتح, قبل أن يتم تناول حركة فتح كلها بالجملة, كخصم ينبغي لحماس كسر شوكته. ولكن الحقيقة تؤكد أن حماس كانت في خصام مع شعبها بالكامل, وفي مقدمته فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة العمل الوطني. وقد كنا نعرف ذلك ونحذر منه مرارا وتكرارا؛ دون جدوى, حتى أتت الأيام بالبراهين الساطعة, التي أشارت أن للكل مشكلة مع حماس, وأن حماس على خلاف, مع كل من لا ينتمي, إلى محافلها السرية والعلنية, أو لا يكون تابعا ذليلا يقبل ما يُملى عليه حرفا بحرف. ونعترف أننا ورغم معرفتنا المسبقة بكل هذا النوايا, لم نكن على رضا من الطريقة التي تعاطت بها حركة فتح, ممثلةً بأطرها العليا, مع ما كان من تحذيرات وتنبيهات, وهو ما لم يجعلنا نتراخى, عن أداء واجبنا في التصدي لمخططات حركة حماس السوداء, التي كانت تشير إليها ممارساتها الدموية اليومية على الأرض, دون أن نتجاوز الخطوط الحمراء, التي تربينا عليها في حركة فتح, وأولها حرمة الدم الفلسطيني, وعظم خطيئة الاقتتال, فكان ما كان. وقد كنا نتوقع من اللجنة المركزية والمجلس الثوري في حركة فتح, تحركا يحمي ويعالج ما صرنا إليه. حتى بعد الانقلاب التزمنا جانب العمل الجماعي, والشرعية الوطنية ممثلة بالأخ الرئيس محمود عباس, وأبدينا استعدادا للعمل بروح الفريق, وبخطوات متساوية, دون تقدم البعض وتراجع الآخر, على طريق إنهاء الانقسام, ورد غزة إلى الحظيرة الوطنية, ولكن الأمر قد تأخر كثيرا,,, ونحن اليوم إذ نتعالى على الجراح كلها, ونقفز عن كل ما من شأنه أن يعكر الصفو, نقول إننا لازلنا مستعدين للعمل بقيادة واحدة ومتفقة, دون التفتيش في التباينات, لإيماننا المطلق بالمستقبل. وهو ما أساءت حركة حماس فهمه تماما, لتستمرئ إطالة أمد الانقسام, بعد أن أوهمت نفسها, بالإمساك على مغاليق القوة دون غيرها, وأحكمت قبضتها على حرية الناس, بالقتل؛ والبطش؛ والاختطاف؛ والترهيب؛ والابتزاز, ومقايضة الأهالي على حاجات الحصار الجائر, حتى صارت الكرامة والمكافأة, التي تقدمها مليشيات الانقلاب للناس, هو تركهم وشأنهم دون البطش بهم, مقابل سكوت العامة عن السؤال عما يجري!
إن العدوان الإسرائيلي المتواصل, على قطاع غزة منذ منتصف العام 2006م والذي اشتد مع بداية هذه السنة, ليحصد أرواح الأبرياء, من أبناء شعبنا, على مختلف توجهاتهم الفكرية ,وفئاتهم العمرية, ومناطق سكناهم الجغرافية, وليصل عدد الشهداء والضحايا والمكلومين؛ أرقاما فلكية, بالقياس مع حجم العدوان وقصر الفترة الزمنية, وبالمقارنة مع ما اعتدناه سابقا, لدلالة كبرى وبرهان دامغ, على أن إسرائيل قد تسللت إلى البيت الفلسطيني, بهذا الاستهتار والجنون المدان والمستهجن, من الثغرة التي فتحتها حركة حماس, في جدار الوحدة الفلسطينية, و الشرخ المُفتعل في حائط الممانعة, التي كانت تجمع الكل الوطني والإسلامي, في دائرة المصلحة العليا للشعب الفلسطيني, رغم التباين الواقع آنذاك في الآراء والتوجهات, من باب الاجتهاد. وهو ما يقتضي القول أن الانقلاب الذي مهدت له إسرائيل, من خلال ضربها للبنية الأساسية, للأجهزة الأمنية طيلة سنوات الانتفاضة, وحصارها غير المبرر لشعبنا الفلسطيني, وتعمدها لخلط الأوراق كافة بوسائل عدة, قد كان هدفا إسرائيليا بامتياز, أعانت عليه حركة حماس من خلال تساوقها مع رغباتها الانفصالية, التي غلبت مصلحة التنظيم على مصلحة الوطن, حينما استرقت غزة, واحتجزتها رهينة لشهوانيتها السياسية, المرتهنة لتعليمات وتوجيهات نافخي الكير, في دول وعواصم, تستهوي الاستثمار الدموي في أكثر من مكان.
إن قناعتنا المطلقة؛ بضرورة عدم توريث وتورث الثأر, والقمصان الملطخة بالدماء, قد جعلتنا نلتزم
على مدار عام من الانقلاب وما قبله بعام ونصف العام, بالجانب الأخلاقي للمجتمع, حذرا من خطورة ارتداء نفس العباءة الدموية, التي وضعتها حماس على أكتافها, لفداحة ضرائبها لاحقا وحتمية خسرانها, واستحالة إتمام معالجة أثارها بسهولة في رزمة واحدة, عبر اتفاق سياسي أو مصالحة وطنية, لأن الأمر في يد الناس والجماهير. غير أننا نؤكد لأهلنا في قطاع غزة, أن الانقلاب الذي يحتفل الانقلابيون في غزة بسنويته الأولى الآن, لن تكون له سنوية أخرى, وأننا وجميع الشرفاء في هذا الوطن, قد نجد أنفسنا في وقت ما, مطالبين بإثبات حقيقة ما لحركة حماس, وهي أنها ليست على درجة من الألوهية كي تحيي وتميت, تعطي وتمنع, توصل وتقطع, كيفما تشاء في غزة, ولن نقول أننا نملك من العزم والقوة, التي ندخرها إلى حين, لأن نجعل عبيد الدم في غزة, الذين امتهنوا القتل والتعذيب والتنكيل, في مليشيات وعصابات حركة حماس, يضطرون إلى الاصطفاف صباحا ومساءً, لإحصاء عددهم في طوابير, ستجد نفسها بحاجة إلى التقوقع والملاذ في جحور آمنة.
أما غزة وقطاعها الحبيب, فإنها والله أغلى وأعز, من أن تُترك لمتاهات المجهول, وهي أبقى بدهور وأزمان طويلة, من بقاء سجانيها ومحتليها على حد سواء, كيف لا؟ وقد اختطت عظام ودماء أهلها, على مدار التاريخ, ملحمة أسطورية, متكاملة الملامح, على امتداد رقع الزمن, مع كل أنواع الغزاة, فيما سجل الغزيون, بصمودهم وروعة رباطهم, وصلابة عودهم, فاتحة الكتاب الفلسطيني المقدس, فأعيت غزة كل العتاة, بجبروتهم ودباباتهم وسلاحهم القاتل, قصفا واحتلالا وتجويعا. ليثبت أهلها بعمق أنفاسهم, وروح مطاولتهم في الحياة, أنهم خارج كل سياق تحليلي أو استراتيجي أو انقلابي, يقصد بالقطاع الهلاك أو السوء أو الانعزال, لصالح أجندات إقليمية, حتى صارت غزة التي نعرفها أكثر من جلاديها الجدد, مبعث اعتزاز وافتخار رفيع, وأمثولة يستحيل مقارنتها إلا بنفسها. وهو ما جمع عليها ما هي فيه الآن, من شقاء وابتلاء, يتقاسم مسؤوليته الاحتلال والانقلاب على حد سواء. وهو ما ينكره المتاجرون بأوجاعها على وجهي العملة المثقوبة,,, كلٌ على طريقه تصوفه السياسي المُهان. ما دامت تحمل عزيمة وقوة واصطبارا, تجعل كل من أتاها غازيا أو مزايدا, يمعن في التأمل أنه مهزوم أو مدحور, حيث وجهته ومنطلق مكانه, أمام ثباتها وعنفوانها وصلابة انتمائها الوطني, الذي ارتضته طوعا لا كرها, معمما بكوفية الياسر والانطلاقة, لا سواها, تحت سقف منظمة التحرير الفلسطينية. لتدفع بذلك غزة الضريبة مضاعفة الأثمان, بوقوعها بين مطرقة الاحتلال الهمجية, وسندان الانقلاب الغبي, على قدر عزمها ورباطها, وهما إلى زوال قريب بحول الله, طال الزمان أم قصر.
إن حجم التضحيات, التي قدمها شعبنا الفلسطيني, على مدار أكثر من ستين عاما, ومدى المعاناة التي كسرت معدلات اللامعقول, صبرا؛ ورباطا؛ وتشريدا؛ وتجويعا؛ وقتلا؛ واعتقالا, يدفعنا لأن نكون أكثر التزاما بالبوصلة الوطنية, التي أضلتها حركة حماس. وتدعونا للتأكيد على حق شعبنا في الدولة المستقلة, وعاصمتها القدس الشريف. والإصرار على نيل حقوقنا المشروعة كاملة, في العودة وحق اللاجئين في وطنهم, وفقا للقرار الأممي 194, وضرورة وقف الاستيطان, بصفته نقيضا للسلام العادل والشامل, وحتمية خروج كافة الأسرى من معتقلات الاحتلال. ولزوم إزالة جدار الفصل العنصري. وإعطاء العملية السياسية والتفاوضية, الزخم الكافي, على الصعيدين الدولي والإقليمي. وفعل ما يجب حتى رفع الحصار الجائر عن غزة, وأهمية تدعيم جبهتنا الداخلية, وخلق المناخ السياسي اللازم, لأن تكون القضية الفلسطينية في حاضنتها الطبيعية العربية, رغم الشعوذة السياسية لحركة حماس, وزمرة الانقلاب, التي أساءت لنا في هذا الإطار. وكذلك وجوب وأد الانقلاب, والتخلص من كافة مشاريعه العبثية, وإعادة اللحمة بين شطري الوطن, مهما كلف الأمر من ثمن, بحيث لن تكون غزة لُغزا فرعونيا, نفني الحياة في البحث فيه, دون العثور على حل له. وتبقى كل العُقد والحلول, رهنا بقرار حماس, التي إن أرادت, عادت إلى صوابها ورشدها السياسي, وتصالحت مع ذاتها, ثم مع شعبها, وأنهت استئثارها الدموي على غزة, وتراجعت عن انقلابها, واستجابت لدعوة الرئيس الجادة في الحوار, بإعادة الأمور إلى سابق عهدها الطبيعي, كمبادرة سنعينها عليها, أو تحملت المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والمادية, عما كان وما سيكون.
المجد والرحمة للشهداء والحرية للأسرى والوحدة للوطن
الشفاء العاجل لجرحى الاحتلال والانقلاب
ستبقى غزة بداية الحلم وأول المشوار
وإنها لثورة حتى النصر
عضو المجلس الثوري لحركة فتح والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني
محمد دحــــلان